سورة الملك - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الملك)


        


{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)}
وفيه وجهان: الوجه الأول: قال ابن عباس كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فأنزل الله هذه الآية القول الثاني: أنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالحال واحد في علمه تعالى بهذا فاحذروا من المعاصي سراً كما تحترزون عنها جهراً فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى، وكما بين أنه تعالى عالم بالجهر وبالسر بين أنه عالم بخواطر القلوب.
ثم إنه تعالى لما ذكر كونه عالماً بالجهر وبالسر وبما في الصدور ذكر الدليل على كونه عالماً بهذه الأشياء فقال:


{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن معنى الآية أن من خلق شيئاً لابد وأن يكون عالماً بمخلوقه، وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضاً مقررة بالدلائل العقلية، وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك الشيء فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصداً إليه، وكما أنه ثبت أن الخالق لابد وأن يكون عالماً بماهية المخلوق لابد وأن يكون عالماً بكميته، لأن وقوعه على ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه أو أنقص لابد وأن يكون بقصد الفاعل واختياره، والقصد مسبوق بالعلم فلابد وأن يكون قد علم ذلك المقدار وأراد إيجاد ذلك المقدار حتى يكون وقوع ذلك المقدار أولى من وقوع ما هو أزيد منه أو أنقص منه، وإلا يلزم أن يكون اختصاص ذلك المقدار بالوقوع دون الأزيد أو الأنقص ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال، فثبت أن من خلق شيئاً فإنه لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته، وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول: تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن العبد غير موجد لأفعاله من وجهين الوجه الأول: قالوا: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها، لكنه غير عالم بتفاصيلها فهو غير موجد لها، بيان الملازمة من وجهين:
الأول: التمسك بهذه الآية الثاني: أن وقوع عشرة أجزاء من الحركة مثلاً ممكن ووقوع الأزيد منه والأنقص منه أيضاً ممكن، فاختصاص العشرة بالوقوع دون الأزيد ودون الأنقص، لابد وأن يكون لأجل أن القادر المختار خصه بالإيقاع، وإلا لكان وقوعه دون الأزيد والأنقص وقوعاً للممكن المحدث من غير مرجح، لأن القادر المختار إذا خص تلك العشرة بالإيقاع فلابد وأن يكون عالماً بأن الواقع عشرة لا أزيد ولا أنقص، فثبت أن العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها وأما أنه غير عالم بتفاصيلها فلوجوه:
أحدها: أن المتكلمين اتفقوا على أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة لأجل تخلل السكنات، فالفاعل للحركة البطيئة قد فعل في بعض الأحياز حركة وفي بعضها سكوناً مع أنه لم يخطر ألبتة بباله أنه فعل هاهنا حركة وهاهنا سكوناً.
وثانيها: أن فاعل حركة لا يعرف عدد أجزاء تلك الحركات إلا إذا عرف عدد الأحياز التي بين مبدأ المسكنة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بأن الجواهر الفردية التي تتسع لها تلك المسافة من أولها إلى آخرها كم هي؟ ومعلوم أن ذلك غير معلوم.
وثالثها: أن النائم والمغمى عليه قد يتحرك من جنب إلى جنب مع أنه لا يعلم ماهية تلك الحركة ولا كميتها.
ورابعها: أن عند أبي علي، وأبي هاشم، الفاعل إنما يفعل معنى يقتضي الحصول في الحيز، ثم إن ذلك المعنى الموجب مما لا يخطر ببال أكثر الخلق، فظهر بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعاله الوجه الثاني: في التمسك بهذه الآية على أن العبد غير موجد أن نقول: إنه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر، وفي الصدور والقلوب، فإنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} مقتضياً كونه تعالى عالماً بتلك الأشياء، وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد: ألا يعلم من خلق الأجسام والعالم الذي خلق الأجسام هو العالم بهذه الأشياء؟ قلنا: إنه لا يلزم من كونه خالقاً لغيره هذه الأشياء كونه عالماً بها، لأن من يكون فاعلاً لشيء لا يجب أن يكون عالماً بشيء آخر، نعم يلزم من كونه خالقاً لها كونه عالماً بها لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالماً به.
المسألة الثانية: الآية تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون {مَنْ خَلَقَ} في محل الرفع والمنصوب يكون مضمراً والتقدير ألا يعلم من خلق مخلوقه.
وثانيها: أن يكون من خلق في محل النصب ويكون المرفوع مضمراً، والتقدير ألا يعلم الله من خلق والاحتمال الأول أولى لأن الاحتمال الثاني يفيد كونه تعالى عالماً بذات من هو مخلوقه، ولا يقتضي كونه عالماً بأحوال من هو مخلوقه والمقصود من الآية هذا لا الأول.
وثالثها: أن تكون {مَنْ} في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله: {والسماء وَمَا بناها} [الشمس: 5] وعلى هذا التقدير تكون ما إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
أما قوله: {وَهُوَ اللطيف الخبير} فاعلم أنهم اختلفوا في {اللطيف} فقال بعضهم: المراد العالم وقال آخرون: بل المراد من يكون فاعلاً للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين، ولهذا يقال: إن لطف الله بعباده عجيب ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم، وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكراراً.


{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين بالدلائل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون، ثم ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد، ونظيره من قال لعبده الذي أساء إلى مولاه في السر: يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك، كل هذا الخير الذي هيأته لك ولا تأمن تأديبي، فإني إن شئت جعلت هذه الدار التي هي منزل أمنك ومركز سلامتك منشأ للآفات التي تتحير فيها ومنبعاً للمحن التي تهلك بسببها، فكذا هاهنا، كأنه تعالى قال: أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم، فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها، وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم، أنا الذي ذللتها إليكم وجعلتها سبباً لنفعكم، فامشوا في مناكبها، فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن، فهذا هو الوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها.
المسألة الثانية: الذلول من كل شيء: المنقاد الذي يذل لك، ومصدره الذل، وهو الانقياد واللين، ومنه يقال: دابة ذلول، وفي وصف الأرض بالذلول أقوال: أحدها: أنه تعالى ما جعلها صخرية خشنة بحيث يمتنع المشي عليها، كما يمتنع المشي على وجوه الصخرة الخشنة.
وثانيها: أنه تعالى جعلها لينة بحيث يمكن حفرها، وبناء الأبنية منها كما يراد، ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك.
وثالثها: أنها لو كانت حجرية، أو كانت مثل الذهب أو الحديد، لكانت تسخن جداً في الصيف، وكانت تبرد جداً في الشتاء، ولكانت الزراعة فيها ممتنعة، والغراسة فيها متعذرة، ولما كانت كفاتاً للأموات والأحياء.
ورابعها: أنه تعالى سخرها لنا بأن أمسكها في جو الهواء، ولو كانت متحركة على الاستقامة، أو على الاستدارة لم تكن منقادة لنا.
المسألة الثالثة: قوله: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} أمر إباحة، وكذا القول في قوله: {وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ}.
المسألة الرابعة: ذكروا في مناكب الأرض وجوهاً أحدها: قال صاحب الكشاف: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأبعده من إمكان المشي عليه، فإذا صار البعير بحيث يمكن المشي على منكبه، فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة، فثبت أن قوله: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} كناية عن كونها نهاية في الذلولية.
وثانيها: قول قتادة والضحاك وابن عباس: إن مناكب الأرض جبالها وآكامها، وسميت الجبال مناكب، لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضاً شاخصة، والمعنى أني سهلت عليكم المشي في مناكبها، وهي أبعد أجزائها عن التذليل، فكيف الحال في سائر أجزائها.
وثالثها: أن مناكبها هي الطرق، والفجاج والأطراف والجوانب وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل، ورواية عطاء عن ابن عباس، واختيار الفراء، وابن قتيبة قال: مناكبها جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه، وهو كقوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً * لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 19، 20] أما قوله: {وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} أي مما خلقه الله رزقاً لكم في الأرض: {وَإِلَيْهِ النشور} يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض، وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله، وأكل من يتيقن أن مصيره إلى الله، والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر، ثم إنه تعالى بين أن بقاءهم مع هذه السلامة في الأرض إنما كان بفضل الله ورحمته، وأنه لو شاء لقلب الأمر عليهم، ولأمطر عليهم من سحاب القهر مطر الآفات. فقال تقريراً لهذا المعنى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8